فصل: تفسير الآيات (20- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (14):

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (14)}
قال علي بن أبى طالب، رضي الله عنه: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} قال: التوحيد. رواه ابن جرير.
وقال ابن عباس، وقتادة، ومالك عن محمد بن المنْكَدِر: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} قال لا إله إلا الله.
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله. {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} قال علي بن أبي طالب: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده، وهو لا يناله أبدا بيده، فكيف يبلغ فاه؟.
وقال مجاهد: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} يدعو الماء بلسانه، ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا.
وقيل: المراد كقابض يده على الماء، فإنه لا يحكم منه على شيء، كما قال الشاعر:
فَإنّي وَإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إليكمُ ** كَقَابض مَاء لَم تَسْقه أناملُه

وقال الآخر:
فأصْبَحتُ ممَّا كانَ بَيْنِي وَبَيْنَها ** مِن الوُدّ مِثْلَ القابضِ المَاءَ بِاليَد

ومعنى الكلام: أن هذا الذي يبسط يده إلى الماء، إما قابضا وإما متناولا له من بُعد، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه، الذي جعله محلا للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا قال: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ}

.تفسير الآية رقم (15):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)}
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء. ولهذا يسجُد له كلّ شيء طوعا من المؤمنين، وكرها من المشركين، {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ} أي: البُكر والآصال، وهو جمع أصيل وهو آخر النهار، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].

.تفسير الآية رقم (16):

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو؛ لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى {نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي: لا تحصل منفعة، ولا تدفع مضرة. فهل يَستَوي من عبد هذه الآلهة مع الله، ومن عبد الله وحده لا شريك له، وهو على نور من ربه؟ ولهذا قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} أي: أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه، فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره؟ أي: ليس الأمر كذلك، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله، ولا ندّ له ولا عدْل له، ولا وزير له، ولا ولد ولا صاحبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم يعترفون أنها مخلوقة له عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكما أخبر تعالى عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فأنكر تعالى ذلك عليهم، حيث اعتقدوا ذلك، وهو تعالى لا يشفع عنده أحدإلا بإذنه، {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93- 95] فإذا كان الجميع عبيدا، فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك، وتنهاهم عن عبادة من سوى الله، فكذبوهم وخالفوهم، فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

.تفسير الآية رقم (17):

{أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ (17)}
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي: مطرا، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي: أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير فوسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علما كثيرا، ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي: فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زَبَدٌ عال عليه، هذا مثل، وقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} هذا هو المثل الثاني، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أي: ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدًا، فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه، كما يعلو ذلك زبد منه. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي: إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل؛ ولهذا قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي: لا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب، لا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا الماء وذلك الذهب ونحوه ينتفع به؛ ولهذا قال: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ} كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
قال بعض السلف: كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله تعالى: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}.
هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله. وهو قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} وهو الشك {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ} وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار؛ فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنَة {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد، فللنحاس والحديد خبث، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت. فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيئ يضمحل عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، فكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله، فمن عمل بالحق كان له، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبَثَه، ويخرج جيده فينتفع به. كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة، وأقيم الناس، وعرضت الأعمال، فيزيغ الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
وكذلك رُوي في تفسيرها عن مجاهد، والحسن البصري، وعطاء، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ضرب الله، سبحانه وتعالى، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا، وهما قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} الآية [البقرة: 17]، ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآية [البقرة: 19].
وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين، أحدهما: قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر؛ ولهذا جاء في الصحيحين: «فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون: أيْ رَبَّنا، عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كالسراب يَحْطِم بعضها بعضا».
ثم قال في المثل الآخر: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} الآية [النور: 40]. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فَقه في دين الله ونَفَعه الله بما بعثني ونفع به، فَعَلِم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به».
فهذا مثل مائي، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم، كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنه فيقتحمن فيها». قال: «فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجزكم عن النار، هَلُمّ عن النار هَلُمّ عن النار، هَلُمّ فتغلبوني فتقتحمون فيها». وأخرجاه في الصحيحين أيضا فهذا مثل ناري.

.تفسير الآية رقم (18):

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أي: أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم {الحسنى} وهو الجزاء الحسن كما قال تعالى مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87، 88] وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أي لم: يطيعوا الله {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا} أي: في الدار الآخرة، لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به، ولكن لا يتقبل منهم؛ لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أي: في الدار الآخرة، أي: يناقشون على النقير والقطمير، والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب؛ ولهذا قال: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}

.تفسير الآية رقم (19):

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (19)}
يقول تعالى: لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي {أُنزلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِنْ رَبِّكَ} هوَ {الحق} أي: الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا، لا يضاد شيء منه شيئا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له، ولا صدقه ولا اتبعه، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وقال في هذه الآية الكريمة: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} أي: أفهذا كهذا؟ لا استواء.
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} أي: إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.

.تفسير الآيات (20- 24):

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة، بأن لهم {عُقْبَى الدَّارِ} وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} من صلة الأرحام، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج، وبذل المعروف، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون الله في ذلك، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة. فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: عن المحارم والمآثم، ففطموا نفوسهم عن ذلك لله عز وجل؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أي: على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، {سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي: في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال، في آناء الليل وأطراف النهار، {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي: يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35]؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} والعدن: الإقامة، أي: جنات إقامة يخلدون فيها.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن في الجنة قصرا يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الضحاك في قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} مدينة الجنة، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد والجنات حولها. رواهما ابن جرير.
وقوله: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين؛ لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته، بل امتنانًا من الله وإحسانا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي: وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثني سعيد بن أبي أيوب، حدثنا معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تُسدُّ بهم الثغور، وتُتَّقَى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا، وتُسَد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء». قال: «فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}».
ورواه أبو القاسم الطبراني، عن أحمد بن رشدين، عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن وهب، عن عَمْرو بن الحارث، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين، الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبحك الليل والنهار، ونُقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل: هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}».
وقال عبد الله بن المبارك، عن بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا أرطاة بن المنذر، سمعت رجلا من مشيخة الجند، يقال له أبو الحجاج يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة، وعنده سماطان من خدم، وعند طرف السماطين باب مبوب، فيقبل الملك فيستأذن، فيقول أقصى الخدم للذي يليه: مَلك يستأذن، ويقول الذي يليه للذي يليه: ملك يستأذن، حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا، ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له، فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش، عن أرطاة بن المنذر، عن أبي الحجاج يوسف الألهاني قال: سمعت أبا أمامة، فذكر نحوه.
وقد جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول، فيقول لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وكذا أبو بكر، وعمر وعثمان.